إن المصطلحات وجد عدد كبير منها بطريقة التغير الدلالي التي تعد من أهم الطرق في توليد المصطلحات في العالم وليس هذا في لغتنا العربية وحسب، بل إن ميزة التغير الدلالي ستجدها في معظم لغات العالم لاسيما التي ساهمت في حلقة من حلقات السلسلة الحضارية المتمثلة في المنظومات المصطلحية للعيوم، وفي هذا المقال الموجز، سنعرض عليكم كيف أدى اتساع الدلالة إلى تغير معنى بعض الكلمات عندما دخلت في حيز المنظومة المصطلحية للحضارة العربية الإسلامية، وقد استندنا في هذا الاتساع الدلالي إلى عدد من المعجمات التراثية التي اختصت بجمع المصطلحات وتعريفها، وسنمثل لمصطلحين من المصطلحات الذين حصل فيهما اتساع دلالي.
أوّلًا – اتساع الدلالة أقل من تخصيصها:
بعد استقراءٍ لعددٍ من المصطلحات التي اتفقت المعاجم في إيرادها، ظهر أنَّ وسيلة تخصيص الدلالة كانت الغالبة في توليد المصطلحات العربية، وهذا الأمر أشار إليه العلماء الأوائل كما في قول الرَّصَّاع([1]) (ت 894 هــ): “أَنَّ الشَّرعَ قَدْ يُعَمِّــمُ اللَّفظَ في أَكثرَ مِن مَدلُولِهِ لُغَةً والغالبُ عكسهُ”([2])، وهو ما نصَّ عليه في العصر الحديث الدكتور إبراهيم أنيس فتعميم الدلالة برأيه: “أقلُّ شيوعًا في اللغات من تخصيصها، وأقلُّ أثرًا في تطور الدَّلالات وتغيرها”([3]).
وهذا ما تحقَّق في مصطلحات العلوم التي وردت في المعاجم قيد الدراسة، إذ إن أغلب المصطلحات ظهرت عن طريق تخصيص الدلالة لا تعميمها، ولهذا لم نعثر إلا على عددٍ قليلٍ من المصطلحات، ولِّد بوساطة توسيع الدِّلالة، ومن أمثلتها:
مصطلح (القِصاص):
الذي لم تعد دلالته منحصرةً بأن يؤخَذ حقُّ المقتول من القاتل، بل شمل كلَّ تعويضٍ عن القتل وغيره، وهذا ما ذكره الجرجاني في التعريفات: “القِصاص هو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل”([4])، والأحمدنكري في دستور العلماء، الذي قال: “والقِصاص: عِوض القتل والجرح عوض الجرح، وأخذ ما أعطاه “([5]).
مصطلح (المُضاربة):
ورد هذا المصطلح في جميع المعاجم المبنيِّ عليها البحث، وقد عرض بعضهم المعنى اللغوي لهذا المصطلح، الذي أفاد معنى السير في الأرض، أما بعد دخوله في علم الفقه، فإنّ دلالته اتسعت، فلم يَعد منحصرًا على السفر، بل توسعت دلالته لتشمل الاتفاق على مشروعِ عملٍ بين طرفين يكون التمويل من أحدهما والعمل من الآخر، فشملت المضاربة السفر والإقامة، وهذا ما ستوضِّحه المعاجم نفسها:
ففي مفاتيح العلوم يقول الخوارزمي: “المضاربة هي: أن يكون المال لأحدهما ويعمل الآخر على قسم معلوم من الربح، وتكون الوضيعة على المال”([6])، وعند الجرجاني: “المضاربة مفاعلة من الضرب وهو السير في الأرض، وفي الشرع عقد شركة في الربح بمال رجل وعمل من آخر”([7]) وفي معجم مقاليد العلوم يكتفي السيوطي بتعريفه تعريفًا ترادفيًّــا، فهو مرادفٌ للقِراض، يقول: “القِرَاض: ما يدفع إلى غيرٍ ليتَّجِر فيه، ويختص بجزءٍ من الربح. المُضَارَبَة : كذلك”([8])، وفي مقاليد العلوم: “المُضاربة مُفاعلةٌ من الضَّرْب وهو: السير في الأرض، وشرعًا عقدُ شركة في الربح بمالٍ من رجلٍ وعملٍ من آخر”([9])، وهذا ما ذكره التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: “المُضاربة: لغةً السّير في الأرض. وشرعًا عقد شركة في الربح بمال من رجل وعمل من آخر”([10]) وقال الأحمدنكري في دستور العلماء: “المُضاربة: مفاعلةٌ من الضَّرب في الأرض وهو السير فيها، قال الله تعالى )وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ( [المزَّمل: 20]يعني الذين يسافرون في التجارة وهي في الشَّرع شركةٌ في الربح بمال من جانب وهو رب المال. وعملٍ من جانبٍ، وهو المُضارِب، وإنَّما سُمِّي هذا العقد بالمضاربة؛ لأنَّ المُضارِب يسير في الأرض غالبًا لطلب الربح”([11]) .
([1]) محمد بن قاسم الأنصاري، أبو عبد الله، الرَّصَّاع: قاضي الجماعة بتونس ولد بتلمسان، ونشأ واستقرّ بتونس وعاش وتوفي بها. اقتصر في أواخر أيامه على إمامة جامع الزيتونة والخطابة فيه، متصدرًا للإفتاء وإقراء الفقه والعربية. وعرف بالرصَّاع، لأنَّ أحد جدوده كان نجارًا يُرصِّع المنابر. له كتبٌ منها: (التسهيل والتقريب والتصحيح لرواية الجامع الصحيح)، و(تذكرة المحبين في شرح أسماء سيد المرسلين)، و(الجمع الغريب في ترتيب آي مغني اللبيب)، و (الهداية الكافية) في شرح الحدود الفقهية لابن عرفة. الزركلي، الأعلام، ج7/ ص5.
([2]) الرَّصاع، شرح حدود ابن عرفة، ص 389.
([3]) د. إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، ص 154.
([4]) الجرجاني، التعريفات، ص225.
([5]) الأحمدنكري، دستور العلماء، ص 698.
([6]) الخوارزمي، مفاتيح العلوم، ص 17.
([7]) الجرجاني، التعريفات، ص 272.
([8]) السيوطي، مقاليد العلوم، ص 54.
([9]) المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، ص 660.
([10]) التهانوي،كشاف اصطلاحات الفنون، ج2/ص 1559.
([11]) الأحمدنكري، دستور العلماء، ص 853-854.