لغة الطفل محل اهتمام الدارسين اللغويين والاجتماعيين والنفسيين؛ إذ إن هذه الأداة هي التي ستمكنه من التواصل مع مجتمعه المحيط به، وكلما تعلم أكثر من لغة أصبح ممتلكا لأدوات كثيرة تؤهله للتعاون مع المجتمع الكوني عامة وليس مع مجتمع محدد حكم العادة والمراس اللغوي أن يكون منتميا له لغويا؛ ولهذا نرى الأمم المتقدمة تركز على أن يتعلم أطفالها أكثر من لغة في فترة الطفولة المبكرة.
هذه اللغة التي كرّم الله بها الإنسان، تمر بمراحل عدة حتى تتكون وتستوي على سوقها، وهذه المراحل مهمة جدا فهي كالنبتة الغضة في المراحل الأولى كلما اهتممنا برعايتها وزوّدناها بمستلزماتها نمت بشكل قوي وتفرعت فروعا عدة. وهذا ما سنتاوله في الأسطر القادمة:
– مراحل تكوّن لغة الطفل:
المرحلة الصوتية:
أول مرحلة لغوية أو محطة تعلم للغة عند الطفل تكون مع لبنتها الأولى الأصوات حيث يولد الأطفال وهم ممتعون بحاسة سمعية تكون المستقبل الأول للأصوات، وهذه المرحلة الصوتية تمر بمحطات عدة الأولى تبدأ بأن الطفل يسمع الأصوات لكن لا يفرق بين صوت اللغة والضوضاء، مثل قرع الباب، أو التصفيق.
يقول العلماء إن الطفل في عمر الأربعة أشهر يبدأ بالتمييز بين الصوت اللغوي والصوت الضوضائي، مثل يدرك الفرق بين صوت اللمة المنطوقة، وصوت التصفيق الذي يمثل نوعا من الضجيج غير الحامل لحروف ألفبائية.
وفي عمر الستة أشهر يبدأ الأطفال بما يسمى الثرثرة اللغوية حيث يسمع الأهل أصواتا متداخلة ، وربما تنتمي الأصوات إلى ألفبائيات لغات متعددة، ولكن بعد أن يتجاوز السنة الأولى يبدأ الطفل بحصر نطقه بأصوات اللغة التي يتعلمها ضمن المحيط الذي يعيش فيه.
في هذه المرحلة الصوتية على الأم التي تمثل المصدر اللغوي الأول للطفل أن تكثر من مناغاته، وإسماعه العديد من الأصوات، ولا تنتظر حتى يصل إلى عامه الأول، بل تستمر بالحديث إليه، وإن كان في شهريه الأولين؛ لأنه في هذه المرحلة سيبدأ بإدراك الأصوات، ومن ثم في الشهر السادس سيبدأ بإصدار أصوات مختلطة متعددة، وعلى الأم أن تحدثه بلغة مفهومة، وإن كان لا ينطق إلا أصواتا متداخلة؛ لأن دماغه المرتبط بسمعه سيخزن الكثير من الكلمات في البنية العمية لتأسيس منظومته اللغوية، ومن ثم فبعد أن يبدأ في النطق سترى أن حباله الصوتية تسعى إلى أن يصدر كلمات مفهمومة وشيئا فشيئا ستبدأ بالكلمات بالتدفق.
مرحلة تعلم الكلمات:
في الشهر الثامن
ستبدأ الأم بملاحظة مهمة وهي أن طفلها الذي درب جيدا على سماع الأصوات الغوية والكلمات الكثيرة التي حدثته بها، ستبدأ تلاحظ أن طفلها بدأ يدرك الفوارق بين حدود كلمة وأخرى، فسيدرك الطفل معاني الكلمات المرتبطة بحياته اليومية وخاصة طعامه.
في الشهر الثاني عشر
هذا السن خطير جدا ومهم جدا لأن الطفل في هذا العمر سيبدأ بإدراك معاني الكلمات، وسيربط بين الصوت اللغوي للكلمة ومعناه، والأخطر أنه سيبدأ بتقليد الكلمات التي يسمعها، وهنا تبدأ المرحلة الأهم في تعلم اللغة وهي ما يطلق عليه في اللسانيات (علم اللغة) مصطلح التقليد اللغوي. وهذه المرحلة قد تتأخر عند بعض الأطفال إلى السنة الثانية من عمرهم.
مرحلة تكون التراكيب:
في سن 18 شهرًا أو السنتين:
هنا يبدأ الطفل بالحاجة إلى معرفة كيفية استعمال الكلمات التي يتعلمها في تواصله مع المحيط الذي يعيش فيه، فتبدأ مرحلة إدراك الأفعال والأسماء، ولكن عموما الأطفال يبدؤون بالتواصل بالاسماء فتراه يستعمل الاسم ويريد الفعل، فيقول مبو أو باب ويريد أن يشرب الماء أو أن يفتح له الباب.
بعد بدء الطفل بإدراك الفوارق بين الأفعال والأسماء يبدأ بتكون الجمل القصير، مثل: “أريد اطعام) بالعامية الشامية (بدي مَم) وكلمة مم هنا تعني الطعام؛ لأنه غالبا في الشام يسمي الأهل الطعام للطفل بالمم فتراه يستعمل هذه الكلمة مع الفعل العامي بدي (أريد).
وتكون مرحلة التركيب اللغوي عند الطفل عادة في سن الثالثة حيث تغدو التراكيب لديث واضحة ومفهومة، وتراه مطبقا غالبا للقواعد اللغوية، وهناك كثيرم ن الأطفال المدربين على الحديثوالذي يسمعون لغة ما كثيرا يدركون الفارق بين المؤنث والمذكر، فتراه بعد أن كان يستعمل الخطاب المؤنث للمذكر أو العكس تراه يبدأ بالتمييز بين أنتَ و أنتِ و هو وهي.
سبل تنمية لغة الطفل:
بعد أن عرضنا عليكم مراحل تكون الغة الطفل بحسب المراحل العمرية التي يمر بها، ننتقل إلى الحديث عن السبل إلى تنمية لغته، إن أولى السب في تنمية لغة الطفل هي الإكثار من إسماعه الكلام والكلام الصحيح ولكن مع مراعاة المرحلة التي يكون فيها، فإذا كان الطفل في المرحلة الصوتية فأكثري أيتها الأم من إسماعه الأصوات اللغوية، وفي شهره الأول أكثر من مناغاته (غغغغ) (بببب) لتدريب حباله الصوتية على نطق الأصوات لاحقا.
وإذا بدأ بمرحلة تكون الكلمات أسمعيه الكلمات الصحيحة ليخزنها بشكل صحيح في ذهنه، ولا مانع في هذا الوقت من الحديث معه بجمل قصيرة بسيطة بأصوات شفوية أي يغلب عليها صوت الباء والفاء والميم والواو والياء …إلخ.
في مرحلة تكوين التراكيب اللغوية احذري كل الحذري من الاستهزاء به أو من الكلمات التي ينطقها بأصوات فيها لثغة؛ لأن هذا الأمر ستصبح له عواقب وخيمة ليس على لغته وحسب بل على نفسيته وسلوكه فإذا نطق كلمة أو جملة بشكل خاطئ لا تعنفيه ولا تهزئي به بل اكتفي بنطق الجملة صحيحة معه دون أن تقولي له خطأ فقط كرري النطق الصحيح وهو رويدا رويدا سنطقه بشكل صحيح.
أما التعنيف والسخرية فقد يؤديان إلى تأخر نطقه بسبب الخجل والخوف من التعنيف، وهذا وقتها قد يتطلب تدخل أخصائيي النطق والكلام، وستقلب الحياة كئيبة للأسرة وللطفل.
عندما يبلغ الطفل مرحلة التقليد اللغوي أي في 18 عشر شهر أو في السنتين الأوليين فإن الطفل وقتها يمكن أن يتعلم أكثر من لغة وهناك من قال إنه يستطيع تعلم أربع لغات معا شريطة أن يتوفر أربعة أشخاص من لغات مختلفة ويحدثه كل منهم بلغته فالطفل سيحدث كل مصدر لغوي وفق اللغة التي سمعها.
وختاما نقول الطفل أدق آلة تسجيل ومن يخصص له وقتا فإن هذا الطفل سيذهلك لغويًّا، وهل تعلم معنى أن يتعلم الطفل أكثر من لغة أي أنه سيمتلك أكثر من عين لرؤية العالم سيفهم الثقافات والعادات من مصادرها الأصلية، سيتعلم العلوم والمعارف بسهولة؛ لأنه امتلك أهم أداة في التعلم والتواصل ألا وهي اللغة، فيا أيتها الأم ويا أيها الأب لا تهمل وقت طفلك بأن تعطيه الجوال وتتركه يطبع الصور في ذهنه وحسب، بل تكلمي وتكلم معه حدّثه وكأنه في عمرك لا تقل إنه لا يفقه شيئا بل تذكر أن هذه الكلمات والجمل هي التي ستسهم في تكون فكره وثقافته ومفهومه للحياة.
اللغة كما قال ابن جنى في تعريفه المشهور “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم” فهنيئا لمن خصص لأطفال وقتا أسمعهم فيه أصوات اللغة وفتح لهم بابا إلى أصوات لغات أخرى تعلموها وأتقنوها ثم غدوا منتجين مساهمين في حركة التواصل الحضاري في العالم بأسره، لا في دائرته الضيقة وحسب.
فيديو