اللغة العربية كيف نخدمها ونعبر لها عن حبّنا – د. محمد خالد الفجر
اللغة عنوان الإنسان والمعبّر عنه وهي انتماؤه لتاريخه وعنوانه الحضاري بين الأمم، واللغة العربية تمثل مخزوننا الثقافي الجمعي وخدمتنا لها لا تكون بقصائد المدح وحسب، بل تتمثل في اجتماع أمور كثيرة على رأسها قوتنا نحن المستعملين لها، ثم تبسيطها لمن يرغب تعلمها، وموافقة استعمالها للعصر الذي نعيش فيه دون الانقطاع عن التراث الذي حملها إلينا.
اللغة العربية لا تحتاج إلى مدح وذمٍّ للغات الآخرين بالمقارنة بها، بل تحتاج إلى فكر تنويري يبسطها ويسهّلها، ويعين على فهمها أكثر من حاجتها للتغني بأشياء زادت من تعقيدها ولا بتقديس من عقّدوها على حساب وظيفتها الرئيسية، ألا وهي التواصل السلس بأصوات غير منفرة، وكلمات متوافقة مع الحياة العصرية.
وظيفة اللغة:
تعلمنا ونحن في سني دراستنا الأولى في كلية الآداب أن أولى ملامح النقد الأدبي حصلت في حوار بين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- وابن عباس -رضي الله عنهما- وذلك في سؤاله لابن عباس عن أشعر الناس، وكان جواب ابن عبّاس: “زهير بن أبي سلمى” وبيّن السبب في ذكره لأبيات من مدحه لهرم من بني مرّة، وكذلك في موقف عمر مع متمم بن نويرة الذي ذكر له أشهر بيتي رثاء وذلك في رثائه لأخيه، وما كان من عمر وقتها إلا أن قال: يا متمم لو كنت أقول شعرًا لقلت في زيد ما قلته في أخيك…
هذا المثال ذكرته لأؤكّد أن اللغة استعمالية تعبر عن الإحساس وأن أجمل ما في اللغة وتمييزها لنا يتجلى في التعبير عما في خواطرنا ومن هنا بقي التعريف المختصر لها الذي قاله ابن جني: “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضه”
فالوظيفة الرئيسة للغة هي التواصل ،فإذا عجز القائمون عليها من جعلها منافسة للغات في سهولة التعلم وسلاسته، فمدحهم وادعاؤهم أنها محاربة يرد عليهم هم، بالعجز وعدم القدرة على المنافسةن مع أننا لا ننسى القادة التي تقول قوة اللغة من قوة أهلها وخاصة اللغة التي يكون متكلموها وناطقوها ممتعين بالاستقرار الاقتصادي.
إن ثمة جهودا بدأت مع أبي حيان التوحيدي والجاحظ من الأدباء والسيرافي، وابن عصفور، من النحويين، حاولوا تنمية الذائقة اللغوية وتبسيطها وتيسير اللغة على مستعمليها بنصوص تنمي الذائقة وتتفق مع النهج اللغوي العربي ولا تركز على مسائل تعقيدية يظن المكثرون منها أنها ميزة للغة مع أنها تعقيد ممن أراد التنافس وتحصيل العطيات من وراء التعقيد، وهذا ما ذكره الأستاذ علي الطنطاوي -رحمه الله- في مقالته الرائعة “آفة اللغة هذا النحو” وقد استعمل هذا العنوان قبله أحمد حسن الزيات في هذه المقالة ذكر الطنطاوي كثيرا من المواقف التي دلّت على أن كثيرا من تعقيدات اللغة جاء من قبل نحويين همهم العطاء وأن الغرابة في اللغة كانت تزيد الأعطيات لهم.
-
كيف تنمو اللغة العربية؟
اللغة هي انعكاسٌ لواقع متكلميها، أي أن الأهمية التي تأتي للغة تبع من اهمية ودور متحدثيها في مسيرة التطور والتمية الحضارية الإنسانية، ويمكن أن نقول بعبارة مختصر قوة اللغة هي انعاكسٌ لقوّة متحدثيها، وهذا شهدناه على مر الوجود الإنساني، ففي مرحلة زمنية كانت اللغة اليونانية هي المسيطرة على الحركة الفكرية والثقافية عالميًّا، وهذه القوة لم تكن نابعة من اليونانية بحدّ ذاتها، وإنما من الإنتاج المعرفي الذي قام به متحدثوها على جميع الصعد وفي جميع المجالات، ولو كان الأمر يرجع إلى اليونانية بحدّ ذاتها، وذلك وفقا لرأي جالينوس العنصري الذي اعتبر باقي اللغات عبارة عن نباح كلاب أو نقيق ضفادع وذلك عند مقارنتها باليونانية، فلو كان رأيه صحيحًا لبقيت هي المسيطرة حتى أيامنا.
لقد احتلت اللغة العربية مكانة عالية في مرحلة من الزمن حمل فيها متحدثوها لواء الحضارة، وسعوا إلى نقل العلوم التي سبقتهم إلى معاصريهم ومن لحقهم، هذا عدا عن الدور الديني المهم الذي احتلته العربية بعد نزول القرآن الكريم، الذي كان سببا لخروجها من إطار المحلية والقبلية إلى نطاق عالمي حضاري، فنمت علومها ودخلت في ميادين متعددة وحققت المقولة التي يقولها كل من يفكر بتنمية لغته وهي إيجاد كلمات وجمل تتوافق مع المفاهيم المستحدثة، والتعبير بأسلوب دقيق عنها. نعم حقّقت اللغة العربية تلك المكانة ولم تكن نابعة من اللغة بحدّ ذاتها، وإنما من قوة المجتمع الذي تبناها وجعلها ناقلة لعلومه، فلم تبق اللغة مجرد أداة دينية، بل استطاعت أن تحمل جميع المفاهيم الحضارية وتقولبها في مصطاحات علمية يسرت التواصل بين أفراد المجتمع العلمي والشعبي في تلك الحقبة.
بالمختصر يمكننا القول: إن نمو اللغة يرجع إلى عامل أساسي وهو تبني المجتمع القوي لها، وأن يجعلها معبرة ليس عن إحساسه وحسب، بل عن وجوده الحضاري.
كيف تنمو اللغة العربية وتزداد قوّة:
الأرضية اليوم مهيّئةٌ جدًّا لتنمية ونشر العربية في العالم وذلك لتوفر عدّة عوامل نذكر منها:
-
اللغة العربية لغة رسمية عالمية:
اللغة العربية هي لغة رسمية في مجلس الأمن من ضمن قائمة اللغات الست العالمية، وهذا يعني أن باب العالمية موجود لها، وليست لغة غير معروفة عالميًّا.
-
الإقبال على تعلم اللغة العربية:
تشهد اللغة العربية مرحلة مزدهرة من الإقبال على تعلمها في دول العالم المتعددة المتقدمة والناشئة والنامية، وصحيح أن الإقبال على تعلمها من أجل الغرض التعبدي الديني هو الذي يحتل المكانة الأولى إلا أنه يوجد اليوم إقبال لتعليمها من أجل التواصل السياسي، والتجاري، والسياحي، والثقافي، وأصبحت لغة أجنبية ثانية معتبرة في كثير من الجامعات العالمية.
-
يتحدث بها عدد كبير من الناس:
وفق إحصاءات اليونسكو فإن اللغة العربية لغة رسمية لأكثر من 400 مليون إنسان، صحيح أنها ليست مستعملة في الأحاديث اليومية، ولكنها تستعمل في أغلب وسائل الغعلام، والمناسبات الرسمية لتلك الدول، كما أن معظم الناس في تلك الدول ستطيعون التفاهم بالفصيحة، ويضاف إليهم مئات الملايين وربما مليار إنسان يتعبدون الله بها يوميًّا.
إن العوامل السابقة تعد خامة صالحة للاستثمار الدقيق؛ لكن للأسف فمع توفر هذه العوامل إلا أن العربية وأقصد الفصيحة، تشهد تراجعا عند الأفراد الناطقين بها، فنحن مثلا نعرف الآن كثيرا من الأثرياء وفي عدد من الدول العربية لا يستطيع أبناؤهم فهم العربية، ويتواصلون بإحدى اللغات الأجنبية التي يتقنونها وعلى رأسها الإنكليزية، بل إننا نرى أن الأهل يتباهون بأنّ أبناءهم لا يفهمون العربية.
فمع وجود هذه الظاهرة، نجد السؤال الآتي: كيف ننمي اللغة العربية؟ بارزًا أمام أعيننا جميعا، لا شك أن ثمة جهودًا كثيرة بُذلت ومازالت تُبذل في هذا السياق، ويسعى كثيرون إلى النهوض بلغتنا، وثمة أطروحات كثيرة أتت حاملة الإجابة عن هذا السؤال، وأضيف إليها الأطروحات الآتية التي تعد منتمة لما سبقها من أطروحات:
أول ما علينا فعله هو القيام بدراسات مؤسساتية إحصائية للتوزع الجغرافي للغتنا في العالم، ويمكن أن يكون هذا التوزع على طريقين:
1- داخل وطننا العربي:
أي نقوم بإحصاء للأماكن التي تستعمل بها العربية الفصيحة، وكم هو معدل استعمالها في وسائل الإعلام مثلا؛ لأننا صرنا نرى اليوم بعض وسائل الإعلام التي تستعمل العامية حتى في نشراتها الإخبارية.
2- خارج الوطن العربي:
وهنا يمكن أن نقسم التوزيع على إطارين:
الإطار الأول: العالم الإسلامي:
فنبحث في دراسات عن انتشار العربية وكيف هو واقع تعليمها في تلك الدول وهل هي منحصرة في مجال معين، مثل التعلم للغايات الدينية، أم تُعلم لأغراض أخرى.
الإطار الثاني: بقية الدول غير الإسلامية:
نبحث في هذه الدراسات عن واقع العربية فيها وخاصة في الدول المتقدّمة التي يعد اعترافها بلغة ما قوة للغة المعتّرف بها ولمدى أثرها في الوجود الإنساني، فنحصي انتشارها في مراكز البحث والتعليم ما قبل الجامعي، والجامعي، وما بعده، وما هي الأغراض التي يتعلم أبناء تلك الدول العربية لأجلها.
وأخيرا نقول: إن نمو أي لغة ومنها اللغة العربية يكون بالقدرة على جذب أكبر عدد من الناس لتعلمها وذلك بتبسيطها، وبجعلها قادرة على الاندماج مع التطور التقني اليوم، الذي يغزو العالم أجمع، فاللغة ابنة يومها وعصرها، وهذا لا يعني إنهاء الدراسات المعمقة للمختصين الذين يحبون التنقيب والبحث في دقائق الأمور، ولكن هذا يكون لهم في زاويتهم التي يعشقون، وليس منهجا للأبناء الذين يتعلمون اللغة ويريدون أن ينطقوها بطريقة صحيحة، فهؤلاء تكفيهم كلمات معدودة لمعرفة القاعدة والتركيز يكون على سليقتم بحيث يتكلمون اللغة رفعا ونصبا دون لحن وتفكير بالقاعدة، بل بنغمة صوتية تصبح ملكة لديهم وموسيقا صوتية تنبههم إلى الخطأ والصواب.