السيرة الذاتية للخوارزمي رائد علم التصنيف الإسلامي د. محمد خالد الفجر

أوّل ما تسمع كلمة الخوارزمي يتبادر إلى ذهنك مباشرة أننا سنتحدث عن عالم الرياضيات محمد بن موسى الخوارزي (ت 232 هـ)، ولكن السيرة الذاتية التي نريد عرضها هنا ليست لعالم الرياضيات، وإنما لعالم موسوعيٍّ آخر وهو: محمد بن أحمد الخوازرمي المتوفى قرابة 387 للهجرة، من علماء النهضة العلمية العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري، هذا الرجل رغم علمه الواسع إلا أنّ حياته لا نجد عنها إلا أسطرًا معدودة متوزعة على عدد من الكتب فمن هو هذا الرجل الذي لقبه أحد علماء الاستشراق الغربيين برائد علم التصنيف العربي.

لمحة عن حياة محمد بن أحمد الخوارزمي:

كما ذكرنا آنفًا لا توجد معلومات كثيرة عن هذا الرجل الموسوعي، إلا أننا نجد بين ثنايا الكتب أسطرا تعرّف به، فهو من خوارزم التي ينسب إليها العديد من العلماء، ومن خلال ما وجدناه في كتابه فإننا نعرف أنه كان عالما لغويًّا متبحّرًا، وجمع مع العلوم اللغوية معرفة بالعلوم البحتة مثل الهندسة والفيزياء، كما أنه يعد من متقني الفسلفة والمنطق، ودل على هذا أنه يضع كثيرا من التعريفات لمصطلحات فلسفية لا نجدها عند غيره، وأما العلم الذي يفاجئك به فهو علم الموسقا ومعرفته بالنغمات والآلات والأوتار، التي خص لها مقالة طويلة في كتابه، تحث فيها عن مصطلحات تأليف اللحن، وتجد تقطيعات موسيقية تشبه إلى حد ما تقطيعات علم العروض المختص بموسيقا الشعر العربي.

وأما عن وظيفته فهي ما يمكن أن يقال عنه اليوم إنه كان مستشارا ثقافيا للحكومة أو لمجلس الوزراء، أو لوزارة من الوزارات هذه الوظيفة كان يطلق عليها مصطلح: (الكاتب) وهذه الوظيفة ظهرت بعد بدء عصر العباسيين وتعد من التصنيفات الإدراية الحكومية الجديدة ويشترط في صاحبها أن يكون ممتعا بثقافة عالية، على نحو ما وجدنا في السيرة الذاتية لعالمنا الذي نتحدث عنه فهو معروف بالخوارزمي الكاتب،نسبة لوظيفته التي صنف لأجلها كتابه مفاتيح العلوم

ما الجديد الذي قدمه للحضارة العربية الإسلامية:

إن علم تصنيف العلوم يعد ميزة لتطور الفكر الإنساني، فهو يدل على تنظيم المعرفة وعلى عراقة أصحابها، فالتصنيف للمعارف لا يكون إلا بعد انتشارها وكثافتها واتساعها، فتحتاج وقتها إلى عملية تنظيمية تسهّل على طالب المعرفة طريق الوصول إلى المعلومة، ونحن نرى اليوم دور التصنيف حتى في أحدث وسائل البحث لعالمية، مثل محرك البحث (جوجل) الذي يعد أضخم قاعدة بيانات في عصرنا، هذه القاعدة تقوم على خوازميات تؤمن تصنيفات تسهّل علينا الوصول إلى ما نبحث عنه سواء من معلومة مكتوبة أو مصورة بالفيدو أو بصورة ثابتة، ونرى أن شركة جول كل مدة تضيف تصنيفًا حديثا لمعلومات استحقت أن تصبح حقلا مستقلا يطلب كثيرا مثل التسوق وحجز الطيران وغيرها.

فالإضافة والتجديد الذي أتى به الخوارزمي كما سنرى لاحقا هو في طريقة التصنيف التي اتبعها في كتابه أو معجمه المختص بالمصطلحات التي كانت منتشرة في زمانه أي في القرن الرابع الهجري.

تعريفٌ بكتابه مفاتيح العلوم:

كتاب مفاتيح العلوم الذي حققه المستشرق الهولندي فان فلوتن (Gerlof van Vloten) سنة 1895، الذي يعد من أوائل المستشرقين المهتمين بالتراث العربي الإسلامي، وحقق عددا من الكتب غير هذا الكتاب، وكتب كتابًا عنونه بالسيادة العربية في عهد بني أمية.

الكتاب هدية قدّمها الخوارزمي لأبي عبد الله بن أحمد بن أبي العتبي وزير الأمير نوح الساماني بنيسابور، ويعد خلاصة للثقافة الموسوعية التي حصلها الخوازمي، ويمكن أن نقول عنه إنه السيرة الذاتية الباقية له، حيث تعطينا هذه السيرة العلمية التي ظهرت في كتابه لمحة عن قدراته العلمية التي لم نجدها في كتب أخرى رغم أن هناك من قال إن له كتبا في علوم بعينها.

  • قيمة الكتاب العلمية:

أطلق عالم الفيزياء الألماني إلهارد ويدمان شقيق عالم المصريات ألفريد ويدمان لقب رائد الموسوعات العلمية العربي كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي، هذا العالم الفيزيائي الذي بدأ بدراسة علوم الشرق على يد العالم اللغوي فيشر، وعمل في معهد للاستشراق اعتنى بهذا الكتاب واعتبره من أول موسوعات تصنيف العلوم الإسلامية، واستحق بحسب من جاء بعده هذاالوصف الذي أطلقه عليه.

إذن يعد الكتاب نقلة نوعية في تاريخ تصنيف العلوم، حيث إن الذي كان متّبعا قبله هو التصنيف الأرسطي، فالفارابي الذي سبق الخوارزمي وتوفي قبله بنصف قرن، كان قد ألّف كتابا في علم التصنيف تحت عنوان (إحصاء العلوم) إلا أنه لم يخرج عن المنهج الأرسطي في التصنيف، لكن الخوارزمي يعد واضع اللبنة الأولى في بناء التصنيف العربي الإسلامي، المتفق مع طبعة العلوم التي ظهرت في الحضارة الإسلامية في ذلك الوقت، ومن هنا تعد هذه هي القمية العلمية العالية لهذا الكتاب.

وأما القيمة الثانية، فهي أنه يعد أول معجم استطاع أن يحتوي أكثر من علم وفق ما يعرف بالحقول العلمية المتعددة، التي تحتوي بين دفتيها مصطلحات أكثر من علم وهنا نقول إن قيمة الكتاب من هذه الناحية لا تقتصر على المنطقة الإسلامية أو على سلسلة العلوم العربية والإسلامية وحسب، بل يعد إضافة في سلسلة التصنيف العالمي لمصطلحات العلوم.

  • الغاية من تصنيف الكتاب:

ذكر الخوارزمي نفسه السبب الدافع لتصنيف كتابه حيث بين أنه يريد منه أن: “يكون جامعاً لمفاتيح العلوم وأوائل الصناعات، متضمناً ما بين كلّ طبقة من العلماء من المواضعات والاصطلاحات التي خلت منها، أو من جلّها الكتب الحاصرة لعلم اللغة، حتّى إنّ اللغوي المبرز في الأدب، إذا تأمّل كتاباً من الكتب التي صُنّفت في أبواب العلوم والحكمة، ولم يكن شدا (أخذ) صدرا من تلك الصناعة، لم يفهم شيئا منها، وكان كالأمي الأغتم (من لا يفصح عن كلامه) عند نظره فيه”.

فمن خلال هذه الأسطر يمكن أن نقول إن هذا الكتاب يعد بمثابة مفتاح لأبواب العلوم، حيث يمكن لمن يريد الغوص في أي علم من العلوم المتضمنة في كتاب الخوارزمي أن يستعين بالمصطلحات الواردة فيه التي أطلق عليها الخوارزمي مصطلح (المفاتيح) التي تفتح العلوم فيمكن لمن يأخذ نظرة في هذا المعجم أن يكوّن مفهوما عن الحقل الذي يريد الخوض فيه.

وبما أن المعجم قد قدّم للوزراة وقتها فيمكن أن يعد دليلا إرشاديًّا للعاملين في مراكز الإمارة في ذلك الوقت حيث يسترشد الموظف بهذا الكتاب في ميدان عمله المرتبط بأحد الحقول التي وردت فيه.

  • أقسام الكتاب:

وزّع الخوازمي كتابه على مقالتين:

1- المقالة الأولى: علوم الشريعة وما يقترن بها من العلوم العربية:

وهذه المقالة وزّعت على أبواب وفصول حوت عددا من مصطلحات العلوم، مثل: الكتابة والنحو والشعر والعروض إضافة إلى التاريخ والجغرافية،

2- المقالة الثانية: علوم العجم:

وزّع هذه المقالة على تسعة أبواب وقصد بمصطلح علوم العجم الحقول العلمية والمصطلحات التي أخذت من غير العرب، مثل: علوم الطب والعدد والهندسة والفلك والكيمياء وعلم الحيل والفلسفة والمنطق والموسيقى.

بلغ مجموع أبواب الكتاب خمسة عشر باباً مقسمة إلى ثلاثة وتسعين فصلاً.

حاولنا في هذا المقالة الموجزة عرض السيرة الذاتية لعالم من العلماء الذي يعد ممن ساهموا في إثراء الحضارة الإنسانية وكان لهم دور بارز شهد لهم به عملهم العلمي الذي مازال مصدرًا ومرجعًا لكثير من الباحثين في زمننا. فرغم أن المعلومات الشخصية عنه لم نقف عليها، إلا في عدد قليل من المصادر، إلا أن إنجازه العلمي يعد السيرة الذاتية المميزة له.

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك (الكوكيز). بمواصلة تصفحك للموقع سنفترض أنك موافق سياسة الخصوصية الخاصة بالموقع. موافق قراءة المزيد