علم الدلالة: ما هو التغير الدلالي وأسبابه وأشكاله | د. محمد خالد الفجر

سنتحدث اليوم عن علم الدلالة وتحديدا عن التغيّرُ الدّلالي مسلَّمٌ به، وهو متحقّقٌ في كلِّ اللغات التي يمتدُّ بها الزمن، ويعبِّر عن مفاهيم تتماشى مع حركة التغير الاجتماعي الذي يُعدُّ من أهمّ أسباب التغير الدلالي كما سيُبين لاحقًا. وقد سمّى بعض اللغويين هذا الانتقال أو التبدل اللغوي تطورًا، ولكن يُعترَض عليهم في أربعة أمورٍ مستقاة من معنى التطور وهذه المعاني للتطور تثبتُ أنَّ عملية تنوع الدِّلالة لا تدخل تحته، وإنما هي نوعٌ من أنواع التغير؛ لأنَّ التطور:
1- يعني انتقال اللغة من طورٍ إلى طورٍ أحسن و أفضل، ويقابله في الإنكليزية مصطلح : “”Development.
2- يعني نوعًا من الخطأ في اللغة، أي خروجًا على القواعد المرسومة والأحكام المحددة التي سُجِّلت في كُتب اللغة.
3- يعني أنه نوعٌ من الخطأ ولكن يمكن تداركه.
4- يعني أنَّ تغيرًا أصاب اللغة في حقبة زمنيةٍ معينةٍ في مستوىً من مستوياتها.
وللخروج من اختلاف المعاني لكلمة التطور اتبعتُ رأي من يطلقون على هذه الظاهرة اللغوية مصطلح التغير الدِّلالي “Change”.
فالتغير الدلالي لا يعني موت الكلمات، لكنَّه يدلُّ على أنّ أشكال اللغة تتبدل وتتغير بحسب حاجة المستعملين لها، “فالمادة الأوليّة للُّغة ثابتةٌ، ولكنّ أشكالها متغيرةٌ، وليس من الممكن أن يتطرق الفناء أو الإماتة إلى المادة الخام، إلا إذا قضى اللهُ ألا تكونَ اللغةُ ذاتها، فأمّا الأشكال فإنَّها تحيا وتموت، تحييها ضرورةٌ تعبيريةٌ، ويميتها انعدام هذه الضرورة، ثمَّ تبعثها في صورةٍ أخرى ضرورةٌ جديدةٌ، وهكذا دواليك”
وعماد المعاجم الوحداتُ المعجمية وهذه الوحدات هي ممثل لغويٌّ للموجودات في العالم المحيط بأهل اللغة وبما أنَّ الموجودات خاضعة للتغير والتبدل، فإنَّ السمة الغالبة على الوحدات المعجمية هي السمة التحولية.

قِدَمُ الإشارة إلى التغير الدِّلالي:

فَطِن العرب إلى استثمار قضية تغير دلالة الكلمة للتعبير عن مفاهيم تتفق وما يجِدُّ من مستحدثاتٍ منذ جاهليتهم، التي وُجدت فيها كلماتٌ جعلوها تدلُّ على معانٍ غير المعاني الأصلية مثل كلمة (الفصاحة) التي كانت تعني إزالة رَغوة اللبن وبقاء خالصه، كما في قول الخليل: “ذَهابُ اللِّبأ عنه وكَثرةُ مَحْــضه وذَهابُ رَغْوته فَصَّحَ اللَّبَنَ تَفصيحاً”، ثم صارت تعني حسنَ الكلام وجُودته.
وفي القرن الرّابع الهجري، قرنِ النَّهضة العربية الإسلامية في المجالات كافة، وقف العلماء على أهمية توظيف التَّغير الدلالي، فالفارابي رأى أنَّ التغير الدِّلالي يكون من أجل التعبير عن الأمور المستحدَثة، وبيَّن أنَّ استعمال اللفظ في المرة الأولى يُعدُّ هو المعنى الأول للّفظ وأيُّ استعمال للَّفظ في معنى آخر يعد تاليًا ومحوَّلًا فقال: “فإذا استقرّت الألفاظ على المعاني التي جُعلت علامات لها فصار واحدٌ واحدٌ لواحدٍ واحد وكثيرٌ لواحدٍ أو واحدٌ لكثير، وصارت راتبةً على التي جُعلت دالّةً على ذواتها، صار الناس بعد ذلك إلى النَّسخ والتجوّز في العبارة بالألفاظ، فعُبّــر بالمعنى بغير اسمه الذي جُعل له أوّلاً، وجُعل الاسم الذي كان لمعنىً مــا راتبًا له دالاًّ على ذاته عبارةً عن شيءٍ آخر كان له به تعلّق، ولو كان يسيرًا إمَّــا لشبهٍ بعيدٍ وإمّــا لغير ذلك، من غير أن يُجعَل ذلك راتبًا للثاني دالًّا على ذاته. فيحدُث حينئذٍ الاستعاراتُ والمجازات”.
وكان ابن سينا ( تــــ 428هـ ) من الذين بيَّنوا أن التغير الدِّلالي وسيلةٌ من وسائل إيجاد المصطلح، وهو أحد الضالعين في مجال المصطلحية العربية، فقد عدَّد في كتابه القانون وسائل إيجاد المصطلح، وكان من بينها التشبيه: داء الفيل، والتشبيه أحد أشكال التغير الدلالي.
ووقف الجرجاني في التعريفات عند أهمية التغير الدِّلالي مبيِّنًا أنّه من أسس صياغة المصطلح، وذلك في أثناء تعريفه لــ (الاصطلاح)، حيث يقول: “الاصطلاح: عبارةٌ عن اتفاق قومٍ على تسميةِ الشيء باسم ما يُنقل عن موضعه الأول وإخراج اللفظ من معنى لغويٍّ إلى آخر؛ لمناسبةٍ بينهما، وقيل الاصطلاح: اتفاق طائفةٍ على وضع اللفظ بإزاء المعنى: وقيل الاصطلاح: إخراج الشيء عن معنى لغويٍّ إلى معنى آخر لبيان المُراد”.
وأدخلت هيئة التقييس الدولية الآيزو هذه الظاهرة (التغير الدلالي) ضمن مفردات علم المصطلح، وأطلَقت عليها مصطلح (تحويل المعنى)، وبيَّنت أنَّ “المعنى المُحوَّل ينشأ من المعنى الحقيقي إمَّا بتخصيصه أو بالتشبيه أو المجاز المُرسَل”.

أسباب التغير الدّلالي:

يرجع تغير الدَّلالة إلى عاملين اثنين: عاملٍ داخليٍّ وعاملٍ خارجيٍّ،

  • العامل الدّاخلي

يرتبط العامل الداخلي بالمستويات اللغوية أي بالصوت والبنية والتركيب، فتغير الصوت يُسهم في تغير دلالة اللفظ مثل: “دعم معناها: قَوِي، ولها معنىً آخر هو دفع وطعن ورمى، وأصل الكلمة بالمعنى الثاني دحم بالحاء، حيث تحوَّلت الحاء وجهرت بسبب الدَّال المجهورة المجاورة لها فقُلِبت عينًا، فصارت دعم، والتبُست بكلمة دعم بمعنى قوي”.
وفي قَضِم وخَضِم، أشار ابن جني إلى أنَّ الصوت له دورٌ في تغيُّر دلالة الكلمة، وأنَّ تغير الصوت مرتبط بتغير دلالة الفعل، فقال: “فإنّ كثيراً من هذه اللغة وجدْتُه مضاهيًا بأجراس حروفه أصوات الأفعال، التي عبّــر بها عنها. ألا تراهم قالوا: قضِم في اليابس وخضِم في الرّطْب وذلك لقوة القاف وضَعْف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى والصوت الأضعف للفعل الأضعف”، وقد ألّف العرب كتبًا عُرِفت بالمثلثات منها: مثلث قطرب (تــ206 هـ) حيث وردت فيه كلماتٌ تغيرت دلالتها بتغير الحركة، فكلمة الغَمر بفتح الغين: الماء الكثير، وبكسرها: الحقد والعطش، وبضمِّها: الجهل وعدمُ التجربة…إلخ.
وكذلك تغير بنية الكلمة يؤدي إلى تغير دلالتها، فالاشتقاق عاملٌ من عوامل التغير الدِّلالي-وهو ما عُرِض في الفصل الأول من هذا الباب- فهو يتمّ بزيادة على الجذر تُولَّد بوساطتها كلماتٌ مزوَّدةٌ بدلالاتٍ مضافةٍ على دلالة الجذر، وكمثال على ذلك كلمة: (الكتابة) المرتبطة برسم الأصوات وَفق طريقةٍ من طرق تمثيلها، يؤدي تغير وزنها إلى إضافة دلالاتٍ جديدة إليها فنجد كاتب، وكتاب، ومكتب…إلخ فالدلالة هنا مُكتسبة من إضافات على وزن الكلمة وهذا يدلُّ على أنّ “القيمة الصرفية توجِّــه المادة الأساسية وتضعها في مجالٍ وظيفيٍّ معين”.
كما أنّ السياق الذي تقع فيه الكلمة له دورٌ كبيرٌ في تغير دلالتها، فكلمة ضرب تتغير دلالتها بحسب التركيب الذي تقع فيه، فهي في قولنا: ضرب زيدٌ عمرًا تعني صفعه، وفي قولنا: ضرب له موعدًا تفيد معنى التحديد.
ولاختلاف اللهجات دورٌ في تغير دلالة الكلمات، ومن الأمثلة على ذلك “ما ورد في كتب فقه اللغة أن كلمة وثب تدل على الجلوس في اليمنية القديمة، أمَّا في العربية المستعملة الآن، فإنَّها تدلُّ على القفز”.

  • العامل الخارجي:

    أمّا العامل الخارجي فيتضمن: العوامل الاجتماعية والنفسية والتاريخية فتغيرُ دلالة كثيرٍ من المصطلحات مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بالواقع الاجتماعي والمراحل التاريخية التي تمرُّ بها اللغة؛ “لأنَّ بين التطور اللغوي والظروف الاجتماعية التي تتطور فيها اللغة صلةً وثيقةً، فإنَّ تطور المجتمع يستتبع تطور اللغة”، والكلام خاضعٌ لذهن الإنسان الذي يولِّده نتيجةَ عملية التفكير، ولا يتوقف إنتاج الذهن للكلام إلا بتوقف التفكير، وكلَّما تغير تفكير الإنسان أثَّر في المفردات التي تتوالد منه، فما ينتجه الفكر يعدُّ من الأسباب الرئيسية المؤدّية إلى التغيرات الدِّلالية، وقد بيّن فندريس ذلك بقوله: “من المُتفق عليه أنَّ الكلمات لا تحيا حياةً مستقلةً، ولا وجود لها إلا في ذهن بني الإنسان. ولكنَّ هذا النَّشاط الذِّهني الذي لا يكفُّ عن العمل ينعكس في المفردات”، فالتفاعل مستمر بين اللغة والمجتمع؛ “ذلك أنَّ اللغة في حقيقتها هي حركةُ المجتمع”.

  • العامل النفسي

أمَّا العامل النفسي فيرتبط بالكلمات التي لا يستطيع المرء النطق بها أمام المجتمع؛ لأنها من الكلمات التي تحمل ما يُطلق عليه بالإنكليزية مصطلح Taboo)) أي الكلمات المحظورة التي تحُول آدابُ المجتمع اللغوي دون النطق بها، ويمكن تلمُّس هذه الناحية في شرع الإسلام الذي كنّى عن كثيرٍ من المعاني بكلماتٍ مغايرةٍ للكلمات الصريحة، فجاء القرآن بكلمة الحرث، والملامسة…إلخ كناية عن الجماع، ونجد في الفقه مصطلح (قضاء الحاجة) كنايةً عن التبول، ولا يقتصر العامل النفسي على لغةٍ دون أخرى، بل هو مرتبطٌ بكلِّ اللغات التي تُراعي جانب الحشمة والأدب، فكلمة ((tummy أي (بطن) بالإنكليزية استُعملت بدلاً منها كلمة (stomach) مَعِدة؛ لأنَّ الكلمة الأولى تثير الحرج إذا نطق بها المتكلم.
إنّ الأسباب السابقة تؤثِّر في دلالة الكلمة سواء أكانت لفظًا عامــًّا أم مصطلحًا علميًّا، فالمصطلح العلمي لم يخرج عن الأسباب السابقة في تغيره، إلا أنَّ العامل الاجتماعي، أي المرتبط بحركة التطور التاريخي، وتوالدَ الأفكار نتيجة عمل الذهن المتواصل في الاحتكاك بالأشياء الحسية والمجرّدة، أدّيا إلى تغير دلالة كثيرٍ من الكلمات، فانتقلت دلالة الكلمة من التعميم إلى التخصيص، أو من التخصيص إلى التعميم، أو تغيرت الدلالة نتيجة علاقات مجاورةٍ أو مشابهة، هذه التغيرات تمثِّل أشكال التغير الدِّلالي الذي تعرضت له الكلماتُ في تحولها من المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي.

أشكال التغير الدلالي:

خضع كثيرٌ من المصطلحات العلمية العربية الإسلامية إلى عدة أشكالٍ من التغير الدِّلالي، فمن المصطلحات ما نتج عن طريق تخصيص دلالة لفظةٍ كانت دلالتُها تفيد العموم، فحصر المصطلح دلالتها في معنى يرتبط بحقل علميٍّ، ومثالها المصطلحات الفقهية، مثل: (الصلاة والحج والزكاة…إلخ)، ومن المصطلحات ما نتَج عن طريق تعميم دلالة كلمةٍ من الكلمات التي كانت تنحصر بمعنى واحد، ثمَّ أصبحت تدلّ على معانٍ شاملةٍ تشمَل أكثر من دلالة تنضوي تحت لفظ المصطلح كما في مصطلح (القِصاص)، ومنها ما خضع لعملية انتقال الدلالة نتيجة علاقة المجاورة المكانية مثل مصطلح (الشُّرَطة)، أو مجاورة زمانية مثل مصطلح: (العقيقة)، أو نتيجة المشابهة كما في مصطلح (الشَّبكيَّة).

 

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك (الكوكيز). بمواصلة تصفحك للموقع سنفترض أنك موافق سياسة الخصوصية الخاصة بالموقع. موافق قراءة المزيد