اللغة والاقتصاد| كيف نستثمر في اللغة ونجعلها عاملا اقتصاديا تنمويا| د. محمد خالد الفجر

اللغة والاقتصاد هناك كثير من الناس الذين ينظرون إلى اللغة على أنها أداة للتواصل، وأن الاستثمار فيها يختصر على تعليم اللغة وقواعدها، أو كتابة الرواية والأدب، ولكن يمكننا القول منذ بداية المقال إن هذا الفهم يحصر اللغة في زاوية ضيقة مع أنها تمثل صلة الوصل بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان وكل ما حوله من أشياء محيطة في دنياه لتي يعيشها.

فاللغة إذن عندما ننظر إليها من هذه الزاوية فإننا سنعيد التفكير في وسائل استثمار اللغة وجعلها مربوطة بالاقتصاد، وكيفية تطويع اللغة للغرض الاقتصادي الذي نستعملها لأجله.

وسنبدأ بمعرفة العلاقة بين اللغة والاقتصاد، ولماذا لا تنفك اللغة عن الاقتصاد

1- اللغة والاقتصاد:

إن كثيرين ينظرون إلى اللغة على أنها تتفق والأمور المعنوية وهم محقون في ذلك، ولكنها مع هذا لها بعد ماديٌّ يساوي إلى حدٍّ ما البعد المادي للنقود.

فلو نظرنا اليوم إلى اللغات العالمية التي تصل إلى قرابة 7 آلاف لغة مستعملة، فإن هذه النظرة وحدها تعرّفنا معنى التقارب بين الاقتصاد واللغة فالميزان التجاري الاقتصادي يقارن بين الواردات والصادرات وكل دولة يكون فيها معدل الواردات يفوق معدل الصادرات فإننا سنحكم على ميزانها التجاري بأنه خاسر، وكذلك اللغات اليوم فإن اللغات التي لا تنتج كلمات ومصطلحات تتفق مع الحضارة والأدوات الحضارية التي يستعملها الإنسان، فإن وارداتها من الكلمات الأجنبية ستكون أكثر وهذا يعني أنها ليست مصدّرة للمعرفة بل هي مستوردة لها، ومن هنا فلن تجد لغة مستورد للمعارف منتشرة عند الناس في المجالات الاقتصادية، ولن تجد لغة متأخرة وشعبها الناطق بها متقدّمًا.

ومن هنا فإن التقدم اللغوي يعني تقدما في سلم الحضارة والمعرفة وهذا ما خلص إليه البنك الدولي في أحد تقاريره التي أجراها حول كيفية تطور البلدان النامية والسبيل إلى ذلك، وخلص التقرير الذي أجري على أكثر من ستين دولة  إلى أن حاجة الدول النامية إلى تحقيق النمو الاقتصادي تكمن في رفع مستوى المعرفة لأفراد المجتمع لا في مساعدات إنسانية وحسب.

والوسيلة التي تعين الأفراد على الوعي والفهم والتقدم المعرفي هي اللغة لأنها تحمل الأفكار وتستطيع تثبيتها في الذهن ومن ثم إنتاج أفكار جديدة من خلالها، وهذا يؤكّد مدى التداخل بين النمو اللغوي والاقتصادي، خاصة في عصر المعرفة الذي نحياه.

إرهاصات الدور اللغوي الاقتصادي:

إن بدايات الدول الاقتصادي للغة بدأت مع الاحتكاكات التي كانت تتم بين الدول سواء المتغلبة أو المغلوبة حيث كان للغة دور كبير في تنمية التبادلات الاقتصادية وهذا منذ زمن قديم.

ففي حضارتنا العربية الإسلامية وجدنا أن الحضارة العربية الإسلامية في ميادين العلوم المختلفة فتح بابه من خلال الترجمات اللغوية للعديد من العلوم والمعارف التي نقلت من اللغات الأخرى التي احتكّت بها اللغة العربية، من مثل: اليونانية، والفارسية، والسريانية…إلخ.

حيث مثلت هذه الصلات اللغوية بوابة النمو الاقتصادي والمعرفي للحضارة العربية الإسلامية وغدت اللغة العربية ضمن اللغات المساهمة في سلسلة حلقات الحضارة الإنسانية.

بل وصل الأمر في كثير من العلماء الذين أعجبوا بالعربية إلى تفضيلهم كتابة معارفهم بالعربية بدلا من لغتهم الأم وعلى رأسيهم البيروني الذي سبق كولمبوس في وضع خريطة لشكل الأرض، حيث يروى عنه أنه قال: “لأن أهجى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية” طبعا هنا نحن لا نفاضل بين اللغات ولا نتبنى الآراء التي تفاضل بينها، ولكنني أرى من قول البيروني أنه لما رأى هذه اللغة تحقق التطور المعرفي والازدهار الاقتصادي، وكذلك ما تتمته به من تأمين مخزون كبير من الكلمات التي تتفق مع المفاهيم المستجدة جعله يقول هذه الكلمة المنسوبة إليه.

الثورة الصناعية والدور الاقتصادي للغات:

إن أكثر مرحلة ظهر فيها الدور الاقتصادي للغة توافق مع الانفجار الصناعي والحاجة الماسة إلى عمال تدير المصانع لا سيما في بريطانيا التي كانت بحاجة ماسة إلى الأيدي العاملة، ولكن كان العائق أمام التطور الصناعي عدم قدرة العمال على فهم اللغة الإنكليزية وخاصة فيما يتعلق بتشغيل الآلات في المصانع، هذا الأمر دفع باللغويين هناك إلى البدء بتصنيف كتب على عجل كتب وظيفية مهمتها تأمين المفردات اللغوية الي تستعمل في المصانع والمعامل، وظهر وقتها مصطلح الإنكليزية للأغراض الخاصة

(English for specific purposes) أو لغة لأغراض خاصة (Language for specific purposes).

حيث هبّ اللغويون لتلبية الحاجة الماسة للغة تشغل المصانع ووضعوا مجموعة من المعاجم والكتب التي جمعت الكلمات والجمل التي تساعد العمال على فهم التواصل مع مديريهم في المصانع وكذلك معرفة معنى الكلمات المستعملة في الآلات.

كيف نستثمر لغتنا اقتصاديًّا:

لغتنا العربية اليوم ليست من اللغات التي تعد متأخرة أو مهددة بالانقراض، فهي تحتل مرتبة متقدمة ضمن الترتيب العالمي للغات الأكثر استعمالا، وهي تتراوح بين الخامسة والسادسة عالميا، كما أنها إحدى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة، ولكن ما تحتاج إليه حتى تصبح منتجا يمكن استثماره عدة أمور نذكر منها:

1- التخطيط اللغوي:

اللغة العربية تحتاج إلى مؤسسات تتبنى مشروعا يقوم بالتخطيط اللغوي لمعرفة البعد الجغرافي الذي تحتله اللغة في كل منطقة من العالم، ومعرفة انتشارها وتقديم البلدان التي تشهد فيها انتشارا كبيرا على غيرها من البلدان لوضع مناهج تعليمية تلبي حاجة كل بلد تنتشر فيه العربية.

2- تحديد أغراض طالبيها:

اليوم اللغة لا تعلم لمجرد الثقافة بل هي تندرج تحت أغراض كثيرة منها: الديني، والدبلوماسي، والسياسي، والسياحي، وهذا يعني أن علينا أن نعتمد على التخطيط اللغوي الذي ذكرناه آنفا لتحديد هذه الأغراض وبدقة متناهية، وكما هو معروف فإن الغرض الديني يعد متصدرا ضمن الأغراض التي يتعلم غير العرب العربية لأجله، ويليه الغرض السياسي، والسياحي.

3- وضع مناهج تتفق مع ما سبق:

بعد تأمين التخطيط اللغوي، وتحديد الغرض التعليمي علينا أن نبدأ بتأمين مناهج تعليمية تتفق مع الأمرين السابقين، بحيث تكون الكتب مثلا ملبية للغرض التعليمي، وهنا لا بد من التنبيه إلى أن البدء بتعليم العربية لأغراض خاصة يحتاج أولا إلى تأسيس علمي يجتاز فيه الطالب مرحلة المبتدئ ويكون في المستوى المتوسط أو المتقدم، وذلك أسوة بباقي التجارب اللغوية العالمية.

فاللغة الإنكليزية مثلا في المجلس البريطاني، لا يسمح لك فيه بأن تبدأ بتعلم لغة التجارة حتى تجتاز مستويات معينة في اللغة، ومن هنا فإن علينا ضبط وجمع الألفاظ بحسب المستويات ومن ثم تأليف الكتب وامتحان الطالب حتى يجتاز المستويات المطلوبة للبدء بتعلم العربية لأغراض خاضة.

إن ما سبق من كلام يؤكد الدور المحوري الذي تلعبه اللغة في الاقتصاد، وخاصة لغتنا العربية التي تعد ما تزال أرضا بكرا للحرث في ميادين الاستثمار الاقتصادي شريطة تأمين فرق لغوية مؤهلة للقيام بمشاريع لغوية تحقق الاستثمار الاقتصادي، وتنجح في جعل العربية أداة مرتبطة بالاقتصاد ومسهمة في تنمية الوعي المعرفي والنمو الحضاري.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك (الكوكيز). بمواصلة تصفحك للموقع سنفترض أنك موافق سياسة الخصوصية الخاصة بالموقع. موافق قراءة المزيد