إن موضوع اللهجات العربية والبحث فيها موضوع يستحق الدراسة بأناة وتمعن؛ وذلك لما لهذا الموضوع من أهمية في إعادة النظر في كثير من المسلمات النحوية أو المعيارية التي أصبحت مقدّسة بسبب فعل النحويين، أو بسبب تخطئة كثيرين من الذين كانوا يتقوتن من خلال هذا العمل اللغوي، وهذا يرجع إلى قلة الدراسات الاستقصائية في مجال اللهجات التي كوّنت عربيتنا الفصحى والفصيحة.
وسنحاول في بداية أحاديثنا عن اللهجات العربية التميهد بمقال موجز عن معنى اللهجة، ووضع اللهجات العربية قبل الإسلام، ثم أشهر اللهجات العربية التي اعتمدها اللغويون واعتبروها من أفصح لهجات العرب في الاستدلال اللغوي.
معنى اللهجة:
عندما ننظر في المعاجم فإننا نجد في لسان العرب التعريف الآتي، اللهجة: ، وهي لغته التي جُبِلَ عليها فاعتادَها ونشأَ عليها” أي اللهجة تفيد معنى اللغة التي جبل عليه الإنسان وهنا طبعا استعملت في تركيب فلان فصيح اللهجة.
واللهجة في الاصطلاح: هي التي تتكون من مجموعة من الخصائص الصوتية والتركيبية ويستعملها أبناء بيئة مجتمعية، ويمكن أن تكون جزءا من لهجة أكبر.
وفي لغتنا العربية هناك فرقٌ بين اللهجة واللغة، فاللغة هي الجامعة لمعظم ناطقي لغة الضاد، وأما اللهجات فهي التي تخص كل دولة وكل مدينة ضمن الدول العربية.
ولا شك أن كل لغة تنقسم إلى لهجات، ولكن الفارق بينها وبين اللغة الرسمية لا يكون بمستوى الفارق الحاصل بين فصحانا ولهجاتنا العربية.
اللهجات العربية قبل الإسلام:
لم تكن العرب ناطقة بلهجة واحدة، بل تعددت لهجاتها وذلك بحسب ما وصلنا من روايات وخاصة من أصحاب الرسائل اللغوية الذين اهتموا بجمع أفصح كلام العرب من ألسنتهم، فقد وجد خلاف في نطق الصقر بين السين والزاي والصاد، ويضاف إلى ذلك أن هناك خلافا في معنى الفعل فكثير من دارسي الأدب واللغة مروا على قصة ذلك الرجل الذي فهم من كلمة ثب أي اقفز ولكن المعنى الذي أراده الشخص غير هذا وهو أن يقف أو |أن يجلس.
إذن تعددت اللهجات بحسب امتداد القبائل العربية وتوزعها في شبه جزيرة العرب، وبقيت متفرقة حتى نزل القرآن الكريم الذي أوجد ما بات يعرف لاحقا باللغة العربية المشتركة التي تكون من عدة لهجات عربية وهذه اللهجات كوّنت فصحانا التي نتكلم بها اليوم.
وهناك من رأى أن لهجة قريش هي التي كانت أفصح اللهجات وأن معظم اللغة العربية المشتركة أخذت من لسانها، ومن يحتج لهذا القول يقول لأن قريش كانت مركزا دينيا معتمدا منذ ذلك الوقت أي قبل الإسلام، كما أنها تمثل ملتقى الشعراء؛ ولهذا فإن أصحابها كانوا يعدون من الذين اختاروا أفضل ما في لهجات العرب، وأكثرها استعمالا بين القبائل العربية، وصراحة هذا القول له يعتبر ذا حجة يعتد بها، فمثلا اللغة التركية في تركيا ترى الأتراك يقولون إن اللهجة الجامعة والأفصح في تركيا هي لهجة إسطنبول. ففي عصرنا الحديث إذن نجد صدى لذلك القول القديم الذي أخذ بالرأي القائل إن أفصح اللهجات العربية هي لهجة قريش.
والآن سنتحدث لكم عن أفصح اللهجات التي كانت مادة لتشكيل الفصحى المتعارف عليها اليوم.
أشهر وأهم اللهجات العربية التي شكلت فصحانا:
إن النحويين العرب اعتمدوا مجموعة من اللهجات اعتبروها من أفصح وأنقى ألسنة العرب؛ وذلك لعدم تأثرها بلغات الدول المجاورة، أو بلهجات أخذت كثيرا من مادتها اللغوية من لغات أجنبية دخيلة على العربية، وقد ورد ذكر هذه القبائل في نص مشهور للفارابي ذكره في كتابه الحروف، حيث قال: “وأنت تتبين ذلك متى تأملت أمر العرب في هذه الأشياء؛ فإن فيهم سكان البراري، وفيهم سكان الأمصار، وأكثر ما تشاغلوا بذلك من سنة تسعين إلى سنة مئتين، وكان الذي تولّى ذلك من بين أمصارهم أهل الكوفة والبصرة من أرض العراق، وتعلموا لغتهم والفصيح منها من سكان البراري منهم دون أهل الحضر، ثم من سكان البراري من كان في أوسط بلادهم ومن أشدّهم توحشاً وجفاءً، وأبعدهم إذعاناً وانقياداً. وهم قيس وتميم وأسد وطيء ثم هذيل فإن هؤلاء هم معظم من نُقل عنه لسان العرب، والباقون، فلم يؤخذ عنهم شيء لأنهم كانوا في أطراف بلادهم مخالطين لغيرهم من الأمم مطبوعين على سرعة انقياد ألسنتهم لألفاظ سائر الأمم المطبقة بهم من الحبشة والهند والفرس والسريانيين وأهل الشام وأهل مصر”
هذا النص علل سبب اختيار النحويون العرب للهجات التي تعتمد في تكوين اللغة العربية المعيارية، وهذه القبائل هي:
- قيس.
- تميم.
- أسد.
- طيء.
- هُذيل.
مقال بسيط و شرح موضح